الابتكار الاجتماعي
تصميم العادات

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 13

تصميم العادات

   محمد السعيد

في العام 1898 أجرى عالم النفس إداورد ثورندایك (Edward Thorndike) تجربةً على القطط، وضعت نتائجها حجر الأساس فيما بعد للطريقة التي يفهم بها العالم اليوم كيف تعمل العادات والقواعد التي توجِّه وتسيِّر السلوك البشري. أحضر ثورندایك بعض القطط، ووضع كل واحدةٍ في صندوقٍ منفرد تستطيع منه الخروج عبر الضغط على زرٍ في داخل الصندوق، وبعد أن أدخل القطط إلى الصناديق، كانت محاولات القطط للخروج تبدأ، فكانت تدس أنوفها في الزوايا، وتدفع بقوائمها عبر الفتحات، وتعبث بالأشياء غیر المثبتة جیداً، لكن كل ذلك لم ينفع، وبعد دقائق من الاستكشاف والمحاولات المخفقة، كانت القطط تكتشف الزر السحري وتضغط عليه، فینفتح الباب، ومن ثم تخرج.

تتبع ثورندایك سلوك القطط من خلال عدة محاولات، في البدایة كانت القطط تتحرَّك في أرجاء الصندوق عشوائياً، لكن بالضغط على الزر وانفتاح الباب، كانت عملية التعلُّم تبدأ، وتدریجياً تعلَّمت كل قطة الربط بین الضغط على الزر والمكافأة المتمثلة في الخروج من الصندوق والحصول على الطعام.

 وبعد 20-30 تجربة أصبح سلوك القطط منتظماً ومعتاداً، فقد أصبحت القطط تخرج من الصندوق ببضع ثوان، وقد سجَّل ثورندایك المدة الزمنية التي أخذتها القطة رقم 12 على سبيل المثال للخروج من الصندوق خلال 25 محاولة، وتعرض الأرقام التالية المدة المستغرقة بالثواني: 160، 30، 90، 60، 15، 28، 20، 30، 22، 11، 15، 20، 12، 10، 14، 10، 8، 8، 5، 10، 8، 6، 6، 7.

 خلال المحاولات الثلاث الأولى خرجت القطة في وقت يبلغ دقیقة ونصفاً في المتوسط، وفي المحاولات الثلاث الأخيرة بلغ متوسط الوقت 6.3 ثانية، فمع تكرار التجربة ارتكبت كل قطة أخطاء أقل وصارت أفعالها أسرع وأكثر اعتيادية، وبدلاً من تكرار الأخطاء نفسها، بدأت القطة في الوصول مباشرة إلى الحل، وقد وصف ثورندایك من خلال دراسته عملية التعلُّم هذه بالكلمات التالية: السلوكيات التي تتبعها نتائج مُرضیة تمیل إلى التكرار، وتلك التي تتمخَّض عن نتائج غیر مرضیة من الأقل ترجیحاً أن تتكرر.[1]

 تلقي هذه التجربة الضوء على كيفية تشكُّل العادات من سلوكيات متكررة إلى عادات ثابتة، وهذا ما يبحثه هذا المقال بين يديك عزيزي القارئ، وبقدر ما أوجِّه الكلام إليك وأقصدك به، فإني أضع نفسي معك في نفس الكفَّة، وأخاطب نفسي وإيَّاك في كيفية بناء العادات أو التخلص منها بالاعتماد على أبحاث علم النفس السلوكي والدراسات ذات الصلة بتطبيقات العادات.

بين الرغبة والسلوك

قد تكون – أيُّها الصديق الافتراضي- أحد أولئك الذين يضعون خططاً كثيرة في بداية كل عام ولا يلتزمون بها، أو على أقل تقدير يحافظون عليها لأسبوع أو اثنين ومن ثم يتركونها، وكاتب هذه السطور يُشاطرك هذا الهم، فهو قد عزم على تدوين يومياته منذ سنة وأكثر وحتى اليوم لم يكتب سوى بضع صفحات (وما زال عازماً)، أُفكِّر معك الآن بصوتٍ عال وأتساءل لماذا نأجِّل ما نعزم عليه؟ هل بسبب ضعف الهمة؟ أو كثرة المشاغل؟ ربما، هذا التساؤل يقودنا لآخر مرتبط به، ألا وهو ما العلاقة بين الرغبة والسلوك؟

 يوضِّح محمود أبو عادي الباحث في علم النفس أن الباحثين يستخدمون مصطلح فجوة النيّة-السلوك (Intention-Behavior Gap) للإشارة إلى الفرق العملي بين مخططات الناس وأفعالهم في الواقع، أي هذا الفرق بين رغبة الإنسان وما يفعله على أرض الواقع. ثمّة فجوة دائماً يمكنكَ ملاحظتها في سلوكيات أصدقائك وفي عائلتك وفي نفسك، هناك دائماً عادةٌ نريد التخلُّص منها، ولكننا لا نستطيع، وهناك مهارات كثيرة نرغب في تعلِّمها، لكننا لا نبذل أي جُهد لتعلِّمها، لماذا؟

يعتقد الباحثون في علم الاقتصاد السلوكي أن النيات لا تعطي مؤشراً دقيقاً على سلوكيات الناس، وإنما تعطي ملمحاً أولياً لا يلزم منه التطابق على أرض الواقع بالضرورة، وهذه الفجوة تحضر حضوراً قوياً في المجال الطبي، حيث إن الكثير من المرضى يَعِدُون الأطباء وبكامل اقتناعهم بضرورة تغيير نمطهم المعيشي الضار إلى نمطٍ معيشي أكثر صحية، ونيتهم جادة حيال هذا التغيير، ولكن عدداً قليلاً جداً من الناس من يفعل ذلك.

لماذا يحدث هذا؟ ما الذي يمنع تطابق النية مع السلوك، ومن ثم يُعيق التكامل بين الرغبة الداخلية والتطبيق في العالم الخارجي؟ لتفسير هذا الأمر سنلقي نظرةً على عملية اتخاذ القرارات السلوكية داخل الدماغ. تُشير الدراسات في علم النفس إلى أن الذي يحكم السلوك البشري وقرارات الناس أكثر من العقل الواعي والإرادة، ثمّة حمولة جينية وتاريخية طويلة تضرب في عمق التاريخ، بالإضافة إلى ممارسة بشرية قديمة وخبرات سلوكية توارثتها الأجيال عن طريق الجينات تُسهِم في السلوك البشري، كما أن العقل تحكمه الكثير من الانحيازات غير الواعية التي تطوَّرت عبر التاريخ لحماية الإنسان ولإبقائه على قيد الحياة، وبمعنى أكثر اختصاراً، فإن ما يُسهم في تكوين قرار الإنسان جزءٌ واعٍ، وجزءٌ كبير غير واعٍ من الضغوطات النفسية والانحيازات الإدراكية التي تتداخل في التأثير في قراره.[2]

 وكما يشرح روبرت سابولسكي (Robert Sapolsky)، أستاذ البيولوجيا وطب الجهاز العصبي في جماعة ستانفورد، فليس هناك منطقة معينة في الدماغ، أو هرمون محدد، أو جين خاص يُفسِّر السلوك البشري، وبدلاً من ذلك فإن كل سلوك لديه مستويات عدة من الأسباب والدوافع.[3] إذاً فإن السلوك مزيج من البيولوجيا، والإرادة، والتفكير العقلاني، والحماسة، والرغبة، والتجارب التي مررنا بها وغير ذلك من العوامل والأسباب. في الفقرة التالية حديثٌ عن كيفية بناء السلوكيات الجديدة لتحويلها لاحقاً إلى عادات ثابتة ودائمة.   

كيف تبني سلوكاً جديداً؟

للإجابة عن هذا السؤال سننظر إلى ما كتبه بريان فوغ (Brian Jeffrey Fogg) مدير مختبر تصميم السلوك والأستاذ في جامعة ستانفورد، في كتابه "عادات صغيرة"، وهو كتابٌ عن تغيير السلوك وتكوين العادات من خلال ممارسات صغيرة جداً، فبعد أن عمل فوغ مع الآلاف من الأشخاص وجد أن جعل التغيير صغيراً وبسيطاً في البداية هو أفضل طريقة لإحداث تغيير دائم.

وفقاً للمؤلف هناك ثلاثة أشياء أساسية يجب أن تجتمع معاً حتى يحدث السلوك، وهي الدافع، والقدرة، والمطالبة، ويُشير الدافع إلى الرغبة في أداء السلوك، أما القدرة فهي الاستطاعة لأداء السلوك، والمطالبة هي ممارسات وأفعال من نظامنا اليومي ثابتة ومستقرة نربط بها السلوكيات الجديدة.

يضع بريان فوغ في كتابه سبع خطوات للبدء بسلوكيات جديدة والالتزام بها، نوضِّحها في الشكل التالي:

  1. توضيح الطموح: الخطوة الأولى في تصميم السلوك هي التفكير فيما تريده، ما الذي تحاول تحقيقه؟ ما النتيجة التي تنتظرها؟ (على سبيل المثال: التقليل من الغضب والانفعال، التمتُّع بصحة جيدة، توفير المال).
  2. استكشاف خيارات السلوك: استكشف جميع السلوكيات التي تساعدك على تحقيق طموحك والوصول للنتيجة التي تريدها. لنفترض أنك شخص سريع الغضب والانفعال وتحاول أن تتخلص من هذا الطبع، ابحث في جميع السلوكيات التي تُخفِّف من حدة الغضب والانفعال، مثل تغيير وضعية الجلوس مثلاً، والخروج إلى الهواء الطلق، وأخذ قسط من الراحة.
  3. اختيار سلوكيات محددة: في هذه الخطوة يحدَّد سلوك أو اثنان أو أكثر ممّا استكشف في الخطوة السابقة، والهدف هو تحديد سلوكيات يمكن القيام بها بسهولة جداً وبرغبة كبيرة إن أمكن ذلك. يوضِّح المؤلف هذه الخطوة بقوله: إنه في عملية تصميم السلوك من المهم اختيار عادات/سلوكيات جديدة لأنفسنا، يمكننا القيام بها في أسوأ أحوالنا النفسية، سواء كنا غير متحمسين، أو متعبين جداً وطاقتنا منخفضة.
  4. البدء بمحاولات صغيرة جداً: كلمة السر في هذا الكتاب هو أن تبدأ بمحاولات صغيرة جداً، اجعل الأمر سهلاً للغاية حتى لا تضطر إلى الاعتماد على التحفيز والحماسة في كل مرة، على سبيل المثال: محاولة جعل الرياضة من العادات اليومية، يقترح عليك المؤلف أن تبدأ بتمرين ضغط مرة واحدة في اليوم، أو الجري لمدة دقيقة، قد ترى الأمر سخيفاً ولا يستحق المحاولة، لكن هنا المفتاح السحري للانتقال إلى عادة ثابتة بنطاقٍ أكبر وأوسع، وذلك من خلال محاولات صغيرة وبسيطة، وما إن تلتزم بها وتصبح من عاداتك اليومية الثابتة، يمكنك حينها أن تفعل المزيد.
  5. البحث عن مطالبات/إشارة جيدة: ما تعنيه هذه الخطوة هو البحث عن فعل أو سلوك موجود في حياتنا اليومية، لنربطه بالسلوك الجديد، في بعض الأحيان يمكن أن تكون المطالبة خارجية، مثل صوت منبه، أو تذكير من أحد الأصدقاء، وفي أحيانٍ أخرى يمكن أن تأتي المطالبة من نظامنا اليومي، مثلاً: تريد أن تجعل القرآن من عاداتك اليومية، اربطه بفعل ثابت تفعله يومياً، مثلاً الصلاة، فتقرأ صفحةً من القرآن (محاولة صغيرة وبسيطة) بعد صلاة الفجر أو صلاة العشاء، في هذه الحالة تربط تلاوة القرآن بفعلٍ آخر ثابت ودائم (الصلاة). يوضِّح المؤلف أننا ما لم نربط السلوكيات الجديدة بأفعالٍ أو عادات ثابتة، فإنها لن تحدث في الغالب، وقد نمَّيتُ الكثير من العادات الإيجابية من خلال هذه الخطوة.
  6. الاحتفال بالإنجاز: إن الشعور بالنجاح هو حافز قوي للتغيير، حيث تنمو الثقة بالنفس عند الاحتفال بالإنجاز واستشعار القدرة على البدء بأفعال وسلوكيات إيجابية. عندما نشعر بالرضا، يفرز الدماغ الدوبامين، ونتذكر السلوك الذي أدى إلى الشعور بالرضا، ومن المرجح أن نكرِّره مرةً أخرى.
  7. استكشاف الأخطاء والتكرار: وفقاً للمؤلف نحن بحاجة إلى إعادة النظر باستمرار في عاداتنا لمعرفة ما إذا كانت تعمل جيداً وإجراء التعديلات عند الحاجة، والمداومة على تكرارها بأسلوب ثابت ودائم.

 النقطة الأساسية في الكتاب هي أنه كلما كان السلوك الجديد بسيطاً وصغيراً، زاد احتمال أن يصبح عادةً ثابتة، وهذا ينطبق على كسر العادات السيئة أيضاً، على سبيل المثال: يصبح قضاء وقت طويل على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر صعوبة عندما تحذف التطبيقات من جهازك.

قوة العادات

قبل الختام وبعد الحديث عن السلوك، أريد منك أن تلقي نظرةً على ما يقوله علم الأعصاب عن آلية عمل العادات، حتى تكتمل لك الصورة: لماذا لا نفعل ما نرغب به؟ كيف نفعل ما نرغب به؟ كيف تعمل العادات؟ اكتشف الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (Massachusetts Institute of Technology) نمطاً عصبياً من ثلاث خطوات يُشكِّل جوهر كل عادة، ويتكون النمط على الترتيب من الدليل، والأمر الاعتيادي، والمكافأة، ودورها في تشكيل العادة كالآتي:

  1. الدليل: الإشارة التي تخبر المخ بالانتقال إلى العادة التي يجب استخدامها.
  2. الأمر الاعتيادي: الفعل الذي نقوم به، سواء كان بدنياً، أم عقلياً، أم عاطفياً.
  3. المكافأة: وهي تساعد المخ على معرفة ما إذا كانت هذه الحلقة تستحق التذكُّر في المستقبل أم لا.

يفيدنا فهم الكيفية التي تعمل بها العادات في التحكُّم بها ببساطة، ومحاولة اكتساب الإيجابية منها والتخلص من السلبية، ولمزيدٍ من التوضيح لنأخذ مثالاً عملياً لكيفية عمل هذه الحلقة؟

  • الدليل/الإشارة: هل لديك حساب إنستغرام أو فيسبوك أو غيرهما؟ لنفترض أن لديك واحداً، يأتيك إشعارٌ بأن أحد الأشخاص قد أعجب بصورتك/منشورك/حالتك، يعمل هذا الإشعار كإشارة للدماغ لفتح الحساب ورؤية الإشعار. (هل ستقاوم؟ هل ستتغلب على فضولك ولن تسارع لتعرف من أعجب بصورتك أو علَّق على منشورك؟ مممم لا أعتقد أن هذا سهل، حاول أن تجرِّب وتختبر نفسك).
  • الاعتياد: هنا السلوك الفعلي، لقد فتحت الحساب ورأيت الإشعار (ومنه تنتقل للصفحة الرئيسية فتضيع نصف ساعة في التصفُّح والانتقال من خبرٍ إلى آخر).
  • المكافأة: هي الفائدة التي ستجنيها من سلوكك، أي لقد عرفت من الفاعل، وسواء كان إعجاباً أم تعليقاً أم غير ذلك، فإن هذا أيضاً سيشعرك بالرضا والسعادة.[4]

تُشير الدراسات العصبية إلى أن الدماغ حين يعتاد على عادة سلوكية معينة فإنه يخلق مساراً عصبياً للعادة، كي يُسهِّل من حدوثها، وهذا يشتهر في الوسط العلمي وخاصة في الدراسات العصبية والسلوكية بالعبارة التي تقول: الخلايا العصبية التي ترسل إشارات إلى بعضها، يرتبط بعضها ببعض (Neurons That Fire Together Wire Together).

يترتّب على هذه القاعدة العلمية أنه من الصعب أن تترك فراغاً لمسار عصبي كوِّن بالفعل، بل الأجدى أن تستبدله، فمثلاً إذا كان لديك عادة سلوكية سيئة هي تناول الأطعمة غير الصحية عند الشعور بالقلق، فإن ما يجب أن تفعله هو أن تستبدل نوعية الطعام، فبدلاً من منع نفسك من تناول أي شيء، بهذه الطريقة أنتَ تُبقي على المسار العصبي ولا تُقاومه، ولكنّك تستبدل تناول فاكهة مثلاً بالطعام غير الصحي، أو بتناول علكة بدل التدخين عند الشعور بالغضب.[5]

في الختام ابدأ اليوم قبل غدٍ

إن كنت وصلت إلى هذه الفقرة فعلى الأغلب أنك مهتمٌ بتطوير نفسك واستبدال عادات إيجابية بما لديك من عادات سلبية، وأقول لك من خلال تجربتي الشخصية وتجربة اثنين من أصدقائي، أحدهما ترك التدخين بعد تسع سنوات من الإدمان عليه، والثاني صارت القراءة جزءاً من حياته اليومية بعد جهدٍ وعناء: الأمر ليس سهلاً أبداً لا سيما إن كانت العادة التي تريد التخلُّص منها متجذِّرة، يلزمك الصبر والمصابرة والمثابرة على المحاولة دائماً مهما كان ما تفعله بسيطاً وصغيراً، التزم به وحافظ عليه، فقليلٌ دائم خيرٌ من كثير منقطع، عشر صفحات تقرؤها يومياً، أو خمس دقائق تمارس فيها الرياضة، أو لفافة تبغ تقرر التخلي عنها يومياً أفضل من لا شيء، وهذه الأفعال الصغيرة قد تتحول يوماً ما إلى أفعالٍ كبيرة وتصبح عادات تغير مسار حياتك ومستقبلك، وتأثيرها الإيجابي سيشمل من حولك، وتذكَّر دائماً أن العائق الأكبر أمام النجاح ليس الإخفاق، وإنما الملل من المحاولة والاستسلام لأهواء النفس. وللمزيد حول هذا الموضوع أقترح عليك قراءة هذه الكتب الثلاثة: 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...